ـبسم الله الرحمن الرحيم
سلام على ال ياسين
ــــــــــــــــــــ أبو طالب بن عبد المطلب
بعد عبد المطلب تولى زعامة قريش ابنه أبو طالب ويسترعي النظر في هذه ثلاثة أمور في شخصية أبا طالب، وهي أنه:
1 ـ لم يكن أكبر أخوته، مع أن السن كان له حينئذ وزنها في تحديد المواقع وتقويم الرجال.
2 ـ كان فقيرا لا مال له، مع أنه لم يكن يتبوأ سدة الزعامة في قريش في الجاهلية إلا من كان مستندا إلى ثراء وغنى كبيرين، وظاهرين.
3 ـ كان بين إخوانه من هو، فعلا، على غنى وثراء واسع وهو العباس بن عبد المطلب.
وكل هذه أمور تجعل أبا طالب فذا في زعامته لقريش، مما يؤكد أنه كان على مواهب وصفات ألغت التأثير المعاكس لكل هذه العوامل الثلاثة بالنسبة له، وأتاحت له أن يتصدر قومه ويسودهم دون منازع، فقد كان له من مكارم الصفات، ومعالي السجايا والأخلاق، ما جعله محل احترام الجميع ومحبتهم.
ـــــــــــــــــــــ سيرته:
- اسمه: عبد مناف بن عبد المطلب.
- لقبه: أبو طالب. وقد غلبت عليه هذه الكنية حتى لم يعرف أن أحدا كان يناديه باسمه الأصلي (عبد مناف) أبدا. سيادته في قومه:
كانت شخصية أبي طالب القوية تسيطر على النفوس بطهارتها واستقامتها وترفعها عن الدنيا، إلى أنه مع ذلك، كان شاعرا مجيدا، فأضاف إلى تأثيره بالشخصية تأثيره باللسان وسحر البيان.
ولقد خلف أبو طالب أباه عبد المطلب في كل مناصبه ومكانته، ولكن ضيق حالته المالية جعله يكل إلى أخيه العباس شأن السقاية وأعباءها نظرا لما كان له من ثراء واسع، يعينه على أن ينهض بمهمتها بصورة أحسن تتناسب مع ما اعتاده بنو هاشم من إكرام وتكريم ضيوف البيت الحرام من الحجيج.
ومما يؤثر عن حكمته وحسن تقديره أنه كان أول من سن القسامة في العرب قبل الإسلام(1). وذلك في دم عمرو بن علقمة، ثم جاء الإسلام فأقرها.
ـــــــــــــــــــــ كفالته للنبي(صلى الله عليه وآله):
كان أبو طالب الأخ الشقيق الوحيد لعبد الله (والد النبي). وقد عهد إليه والده عبد المطلب بكفالة النبي(صلى الله عليه وآله)، فكان عند حسن الظن به، حدبا عليه، وانعطافا إليه، ورعاية له وعناية به، حيث لم يجعله فقط، كواحد من أبنائه، بل كان يقدمه عليهم أجمعين(2).
وكان مما زاد في إعزازه عنده، واهتمامه بشأنه وحرصه عليه أن جميع الدلائل كانت ترهص بأن له شأنا في المستقبل. ومن ذلك:
1 ـ ما يرويه ابن إسحاق من أن (رجلا عائفا من لهب، كان إذا قدم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم، ويعتاف(3) لهم فيهم، فأتاه أبو طالب بالنبي ـ وهو غلام ـ فنظر إليه.. ثم قال ـ بعد فترة ـ ردوا على هذا الغلام الذي رأيت آنفا، فوالله ليكونن له شأن.... فلما رأى أبو طالب حرصه عليه، غيبه عنه)(4).
2 ـ ما سمعه أبو طالب من بحيرى الراهب، إذ قال له: (ارجع بابن أخيك إلى بلده، وأحذر عليه يهود، فوالله لو رأوه، وعرفوا منه ما عرفت ليبغينه شرا، فانه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده)(5).
3 ـ ولقد سبق أن سمعه أبو طالب من والده عبد المطلب في شأنه ثم صدقه كلام العائف والراهب من بعد ـ فكان لهذا أثره الكبير في أنه صار على أتم الثقة من أنه سيكون له شأن عظيم.
4 ـ ولقد ظل محمد(صلى الله عليه وآله) في بيت عمه أبي طالب، محل الإعزاز والإكرام والاهتمام والعناية إلى أن انتقل إلى بيت الزوجية حيث بنى بخديجة بنت خويلد(6) إحدى كرائم مكة، ومعالم ثرائها في تلك الأيام.
ولعل مما يشير إلى مكانة النبي عند أبي طالب، وتقديره له أن نستمع إليه ـ وهو يخطب في حفل زواج النبي من السيدة خديجة إذ يقول: (إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله، من علمتم قرابة وهو لا يوزن بأحد إلا رجحه: شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، فان كان في المال قل، فان المال ظل زائل، وعارية مسترجعة. وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك. وما أحببتم من الصداق فعلي، ومحمد ـ بعد هذا ـ له نبأ عظيم، وخطر جليل)(7).
على أن أبا طالب لم يكن يصدر ـ في تقديره لمحمد(صلى الله عليه وآله) عن مجرد الحب والقرابة بينهما، أو مجرد الإعجاب بمحامد الصفات، وجميل السجايا، وكريم الأخلاق، التي كان يتحلى بها النبي، وإنما كان عن إكبار وإجلال وتقدير واحترام ـ على ما كان بينهما من فارق السن ودرجة القرابة ـ لشخصية النبي، فكان، وهو كافله وحاميه، يمدحه بالقصائد التي لا يمدح بمثلها إلا الملوك والعظماء من مثل قوله:
وتلــقــوا ربــيع الأبطحيـــن محمدا علــى ربوة من فوق عـنقاء عطيل
وتــــأوى إلـــيه هشـــام إن هاشما عــــرانين كعــــب، آخـــرا بعد أول
وبمثل قوله:
وأبيـــض يستــسقى الغـمام بوجهه ثـــمال الــيتامى عصـــمة لـلأرامل
يطــوف بـه الهلاك مــن آل هاشــم فــــهم عـــنده فــي نعمة وفواضل
ويقول علي بن يحيى البطريق في بيان سر ذلك (لولا خاصة النبوة وسرها، لما كان مثل أبي طالب ـ وهو شيخ قريش ورئيسها وذو شرفها ـ يمدح ابن أخيه محمدا(صلى الله عليه وآله)، وهو شاب قد ربى في حجره، وهو يتيمه ومكفوله، وجار مجرى أولاده. فان هذا الأسلوب من الشعر لا يمدح به التابع من الناس، وإنما هو مديح الملوك والعظماء، فإذا تصورت أنه شعر أبي طالب، ذلك الشيخ المبجل العظيم، في محمد(صلى الله عليه وآله) ـ وهو شاب مستجير به، معتصم بظله من قريش، قد رباه في حجره... علمت موضع خاصة النبوة وسرها، وأن الله تعالى أوقع في القلوب والأنفس له منزلة رفيعة ومكانا جليلا(8).
ولم يكتف أبو طالب بهذا وإنما وقف حياله(صلى الله عليه وآله) منذ بعثته، يعينه وينصره ويحميه، دون أن يلقى بالا لما يترتب على ذلك من مشاق ومتاعب مادية ومعنوية، وظل على ذلك حتى انتقل إلى أخراه.
وحينما تألبت قريش كلها ضد ابن أخيه، وواجهوا أبا طالب في هذا، لم يلن ولم يهن، ودعا بني هاشم وبني عبد المطلب إلى مشاركته في منع الرسول والقيام دونه، فأجمعوا إليه، وقاموا معه، فسر بذلك وطابت نفسه، وتفجرت شاعريته يمدحهم، ويفخر بهم، وذلك إذ يقول:
إذا اجتــمعت يـــوما قـريــش لمفــــخر فعبـــــد مـــناف ســـــرها وصمـــيــمها
وان حــصلت أشــراف عـــــــبد منافها فـــــفي هـــاشم أشــــرافها وقـــــديمها
وان فـــخــــرت يـــومــا فان مـــــحمدا هو المصطفى من سرهــا وكريمها(9)
وحينما أحس روح الشر التي سيطرت على قريش قد تجاوزت حدودها، بعد أن ذاع أمر النبي بين القبائل وخشي أن تنضم دهماء العرب ورعاعها إلى المخالفين من قومه، مما لا قبل له به، توجه، مع وفد من بني هاشم، إلى البيت متعوذا بحرمته ومكانته، مما يصوره بقوله:
ولمـــــا رأيــــت القــوم لا ود فـــيــهم وقـد قطــــعوا كـــل العـــرى والوسائل
وقد صــــارحــونا بالعــــــداوة والأذى وقد طــــــاوعوا أمــــر العــدو المزابل
وقــد حالفوا قــــوما عليـــــنا أظــــــنة يعضــون غيظا خلفــــــنا بــــالأنــــامل
صــبرت لهم نفسي بســـمراء سمـــحة وأبيــض عضــــب مـــن تراث المقاول
وأحصــرت عند البيت رهطي واخوتي وأمســــــكت مــــن أثـــوابه بـالوصائل
أعوذ بــــرب النـــاس مـــن كل طاعن عليــــــنا بـــــسوء أو ملــــح بــــباطل
وبـــالبـــيت حــــق البيت من بطن مكة وبــــالله، أن الله ليــــــس بـــــــغـافـــل
فهل بعد هــــذا مــــن معــــاذ لعــــــائذ وهـــل مـن معيذ يتـقي الله عاذل(10)
ولقد كان آخر سهم في جعبة قريش ضد أبي طالب، ومن معه في حماية النبي(صلى الله عليه وآله) هو فرض الحصار والمقاطعة لبني هاشم، لا يتناكحون معهم، ولا يبايعونهم، فقبل بنو هاشم ذلك التحدي وانحازوا إلي شيخهم وكبيرهم أبي طالب في شعبه، ولم يشذ منهم ـ في ذلك ـ إلا شقيهم أبو لهب واستمر الحال على ذلك ثلاث سنوات صمدوا خلالها وثبتوا رغم الجوع والإملاق الذي أصابهم حتى هيأ الله من أنهى هذا الحصار.
ـــــــــــــــــــــ وفاته:
استمرت مناصرة أبي طالب للنبي منذ بعثه الله تعالى ـ لا وهن فيها ولا تخلياً بحال من الأحوال حتى لفظ أنفاسه الأخيرة من الدنيا وذلك في السنة الثالثة قبل الهجرة(11) وكان ذلك بعد الحصار المشار إليه بسنة ونصف تقريبا، بل أنه لم ينس ـ وهو في آخر رمق من حياته ـ أن يمارس نصرته للنبي(صلى الله عليه وآله)، فقد التفت إلى المحيطين به قبيل وفاته، فأوصاهم بالنبي قائلا (أُوصيكم بمحمد خيرا، فانه الأمين في قريش، والصادق في العرب، والجامع لكل ما أُوصيكم به... والله لا يملك أحد سبيله إلا رشد، ولا يهتدي بهديه إلا سعد، ولو كان في العمر بقية لكففت عنه الهزاهز، ورفعت عنه الدواهي. أن محمد هو الصادق فأجيبوا دعوته، واجتمعوا على نصرته، فانه الشريف الباقي لكم على الدهر)(12).
ـــــــــــــــــــــ عقيدته
وهذه الوصية وحدها كفيلة بأن تنبىء عن حقيقة عقيدته في محمد(صلى الله عليه وآله) ودعوته، ولكن خلافا نشب حول هذه العقيدة فيما بعد البعثة النبوية، وان اتفق الجميع على أنه كان قبلها من المتألهين الحنفاء، وانه لم يعرف عنه أنه هام بصنم أبدا، أو سجد لصنم قط(13).
فالشيعة وبعض المعتزلة وبعض السنة، يرون أنه آمن بمحمد(صلى الله عليه وآله) وبدينه(14) وان كان لم يعلن ذلك لأسباب كثيرة، ترجع كلها لمصلحة الدعوة الوليدة، وامكان الاستمرار في حمايتها، باعتبار أن المرحلة الأولى لها كانت تقتضي هذا التكتيك (الخطة)(15) و يستشهدون لذلك ـ ضمن ما يستشهدون به:
1 ـ بمواقفه في مؤازرة النبي(صلى الله عليه وآله)، مما أسلفنا الإشارة إلى بعض منه.
2 ـ وبما روى عنه من أشعار كثيرة تنبىء عن ذلك، ومنها(16).
قوله:
ولقــــد عــلمت بـــأن ديـــن محـمد مـــــن خـــير أديــــان البـرية دينا
وقوله:
ألم تــــعلموا أنــــا وجــــدنا محمدا نبـــــيا كمـوسى خط في أول الكتب
وقوله(17):
فـــــأيده رب العـــــباد بنــــــصــره وأظــــهر ديــنا حقـــه غـــير باطل
وقوله(18):
لقـــــد عــــلموا أن أبنــنا لا مـكذب لديـــــنا ولا يعــــني بقوله الأباطل
فـــــمن مــثله في الناسر إلا مؤمل إذا قـــــاسه الحـــكام عند التفاضل
وقوله(19):
والله لــــن يصــــــلوا إليك بجمعهم حــــــتى أوســــد فـي التـراب دفينا
فأصدع بأمرك ما علـــيك غضاضة وابــــشر وقر بــــذاك منــك عيونا
فهو في هذه الأبيات كلها ـ يصدق محمدا(صلى الله عليه وآله)، ويؤمن بنبوته وبدينه، ومن ثم تصدى لنصرته بكل مرتخص وغال.
3 ـ وبما روي في الأخبار الثابتة من أنه:
() لم ينكر على ابنه علي(عليه السلام) إيمانه بدين محمد(صلى الله عليه وآله)، ولم يزجره على ذلك، أو ينهه عنه، بل أقره عليه، مع ما يعلمه بما يعرضه ذلك للمتاعب والأهوال(20).
(ب) لما رأى النبي(صلى الله عليه وآله) وعليا(عليه السلام) يصلي خلفه عن يمينه ـ وكان معه ولده جعفر ـ قال لجعفر: صل جناح ابن عمك، فصل عن يساره(21)، مما يدل دلالة واضحة على إسلامه فعلا، و إلا لما أقر ابنه عليا على إسلامه وصلاته، ولما أمر ابنه الثاني جعفرا بأن ينضم إلى أخيه في الصلاة، وهي عمود الإسلام، فالولد هو أعز ما يحرص الإنسان على تنشئته وفق آرائه ومعتقداته، بل وعاداته، وبخاصة في ذلك العصر من الزمان، وكذلك البيئة القبلية من المكان، بل كان هذا هو ديدن ناس ذلك الأوان، كما سجله، كذلك، القرآن ـ حكاية عنهم ـ يقول الله تعالى (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)(22).
ويزيد هذا تأكيدا أن أبا طالب أنشد، حينئذ، شعرا سجل فيه سعادته بذلك، يقول فيه:
إن علـــــــيـــا وجعـــــفرا ثــقــــتي عــــــند مـــــلم الــــزمان والنوبي
لا تخـــــذلا، وأنـــــصرا ابن عمكما أخـــــي لأمـــي، مـن بينهم، وأبي
والله لا أخـــــــذل النــــــبــــي، ولا يخـــــذله مـن بني ذو حسب(23)
فهو لا يكتفي بأمرهم بالصلاة خلف النبي(صلى الله عليه وآله) فحسب، وإنما هو يمدحهم ويثني عليهما في ذلك، يأمرهم بنصرته وعدم خذلانه، ويقسم على إلا يصدر منه، ولا من أحد بنيه، خذلان له أبدا.
(ج) أن زوجته فاطمة بنت أسد، (أم علي ـ وجعفر)، كانت ثاني امرأة تدخل في الإسلام، بعد خديجة الكبرى، زوجة رسول الله، مع ما هو معلوم من تأثير كل أم على بنيها ـ ذكورا وإناثا ـ ومع ما هو معلوم، أيضا، من أن تقاليد ذلك الزمن كانت تقضي بألا يقر الزوج زوجته إذا خرجت عن عقيدته إلى عقيدة أخرى. ومن ثم فكيف يتصور ـ أن يقرها أبو طالب ـ وهو من هو في قومه ـ على إسلامها بينما يكون هو باقيا ومصرا على أن يكون على غير الإسلام؟
() لما علم أن قريش علمت على الدس لدى نجاشي الحبشة ضد مهاجري المسلمين إليها كتب إليه كتابين من الشعر، نبهه في أحدهما إلى هذا الدس، وأغراه بأن يكون على الأمل في شهامته وبسط جواره على كل من يلجأ إلى حماه، وذلك إذ يقول فيه:
تعـــــلم أبيـــــــت اللـــعن أنك ماجد كريم، فلا يشـــــقى لـديك المجانب
تعـــــلم بـــــأن الله زادك بـســــطة وأســـــباب خيـــر كـــلها بك لازب
وانـــــك فيــــض ذو سجال غزيرة ينال الأعادي نفعها والأقارب(24)
ويدعوه في ثانيهما إلى الإسلام، كما جاء فيه، من قوله:
تعـــــلم مليـــك الحبـــش أن محمدا نبـــي كموسى، والمسيح ابن مريم
أتــــــى بــــالهدى مثل الذي أتيا به فكــــــل، بــأمر الله، يهدي لمعصم
وإنـــكم تــــــتلونــه فـــــي كتابـــكم بصــــدق حـديث، لا حديث المرجم
فـــــلا تجــــــعــلوا لله ندا وأسلموا فان طريق الحق ليس بمظلم(25)
فهل من يدعو إلى الإسلام يكون غير مسلم؟
(هـ) لما علم بتظاهر قريش على الرسول قال(26):
ألـــــم تعــــــــلموا أنا وجدنا محمدا نبيا كمـــوسى خــط في أول الكتب
فــــلسنا ورب البــــيت نسلم أحمدا لعزاء مــن عض الزمان ولا كرب
(و) لما بلغه أن أحد المشركين، وضع أقذاره على ظهر النبي(صلى الله عليه وآله)، وهو ساجد في الصلاة، وأنه يسخر من حركاته فيها، ويظاهره في هذه السخرية بعض الحاضرين، جاء مسرعا مغضبا إلى حيث يوجد النبي حينئذ، وسأل من فعل به هذا، فلما علم أنه الشاعر ابن الزبعري لطمه لطمةً أدمته، وألقى عليه نفس القاذورات، ولوث بها لحييه، ثم توجه إلى النبي(صلى الله عليه وآله) ـ في عطف وحنان ـ فقال له: أرضيت؟ ولم يلبث أن جادت قريحته بشعر يتحدى فيه كل من يقف في وجه النبي(صلى الله عليه وآله)، ودعوته إلى دينه، يقول فيه:
أنــــت النــــبـــي مـــحــــمد قـــدمـــا أعــــز مـســـــود
أنــــي تـــضـــــام ولــم مت وأنـــــا الشـــــجاع العـربد
وبــــــطــــاح مــكة لا يرى فــــيــها نـــــجــــيع أســود
وبـــــنــو أبــــــيك كــــأنهم أســـــد الـعرين تـــــوقــدوا
نعــــــم الأرومـــــة أصــلها عـــــمرو الحطـــيم الأوحد
ولقــــــد عهـــــدتـك صادقا بـــــالقـــــــول لا تـــتـــزيد
مـا زلــت تــنطــــق بالصوا ب وأنــت طـفل أمرد(27)
4 ـ وبما روي عن العباس أنه سأل النبي(صلى الله عليه وآله) بالمدينة، فقال: يارسول الله، ما ترجو لأبي طالب؟ فأجابه(صلى الله عليه وآله) بقوله: (أرجو له كل الخير من الله عز وجل(28).
فهل يرجو رسول الله(صلى الله عليه وآله) الخير ـ بل كل الخير لأحد، وجهت إليه دعوة الإسلام، ولم يستجب إليها؟
ـــــــــــــــــــــ شبهة ورد
ويرى بعض المعتزلة وأكثر الجمهور من السنة أن أبا طالب مات على غير الإسلام(29) وأن نصرته وحمايته للنبي كانت بسبب القرابة العائلية، ومن قبيل النخوة والقبلية، ويستشهدون لذلك ـ ضمن ما يستشهدون به له:
1 ـ بأبيات كثيرة من شعره تؤيدهم فيما ذهبوا إليه، ومنها:
قوله:
فـــــوالله، لـــولا أن أجـــيىء بــســــبة تجر عـــــلى أشـــــياخنا فـــي المحافل
لكـــــنا أتبـــــعناه عـــلى كــل حــــــالة من الدهر جدا غــير قول التنازل(30)
وقوله:
لـــــولا المـــــلامة أو حــــــذارى سبة لــــو جدتـــني سحــــا بذاك مبينا(31)
ويلاحظ على هذين القولين أنه، يجد الحرج في الإعلان عن إسلامه، ولكنه يؤكد بهما حقيقة إيمانه. ومن ثم كيف يقال: أنه مات على ما كان عليه قبل الإسلام؟
2 ـ وبما رواه ابن إسحاق من أنه(صلى الله عليه وآله) طمع في إسلام أبي طالب لما رأى منه قبل وفاته، فجعل يقول له: (أي عم قلها ـ أي كلمة التوحيد ـ استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة، فأجابه أبو طالب: يا ابن أخي، والله ـ لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أنني إنما قلتها فزعا من الموت، لقلتها، ولا أقولها إلا لأسرك بها(32)، فلما تقارب الموت من أبي طالب، نظر العباس إليه فوجده يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنيه ثم قال: يا ابن أخي لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (لم أسمع)(33). فهو هنا مؤمن، ولكنه يخاف ـ من إعلان إسلامه ـ السبة على محمد(صلى الله عليه وآله) وعلى بني أبيه.
ولعمري كيف يمكن أن يكون إسلام أبي طالب سبة على محمد(صلى الله عليه وآله) وهو نبي الإسلام، الداعي إليه، متحملا من الإيذاء في سبيله ما لا قبل لغيره به، إذا سلمنا، جدلا، أنه يكون سبة على بني أبيه؟ بل هل يدعو النبي إلى ما فيه سبة عليه؟ وكيف يتصور أن يكون إسلام أبي طالب على بني أبي محمد(صلى الله عليه وآله)، حينئذ سبة، وقد كان علي وجعفر وعمهما حمزة، كلهم في ذلك الوقت مسلمين فعلا بصورة علنية؟
على أنه كيف يتصور أن يهتم العباس بأن يتابع شفتي أبي طالب، حينئذ، ويتسمع إليه بأذنيه ليتأكد مما يقول في شأن هذا الذي أمره به النبي(صلى الله عليه وآله). وهو لما يعرف عنه الإسلام بعد، والتاريخ يذكر أنه ظل على موقفه من الإسلام بعد، والتاريخ يذكر أنه ظل على موقفه من الإسلام حتى شهد بدرا في صفوف المشتركين، وكان من أسراها؟
وحينئذ كيف يتصور إذا كان إسلام أبي طالب سبة على بني أبي محمد(صلى الله عليه وآله). أن يحقق العباس هذه السبة، فيقول للنبي: (يا ابن أخي، لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها)؟ وكيف يتصور ـ إذا كان ذلك قد حدث فعلا ـ أن يقول النبي(صلى الله عليه وآله): (لم أسمع)، مع أنه هو الذي أمره أن يقولها، وأخبره عمه بنطقه بها؟
3 ـ وبما روي عن ابن عباس في تفسيره لقول الله تعالى: (وهم ينهون عنه، وينأون عنه(34) أنه قال: أنزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين عن أن يؤذوا رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويتباعد عما جاء به)(35).
فكيف يتفق هذا مع ما سبقت روايته عن ابن عباس نفسه من أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) يرجو لأبي طالب كل الخير من ربه؟ لابد أن إحدى الروايتين مكذوبة(36) على ابن عباس.
4 ـ وبما روي أن عليا(عليه السلام) جاء إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ حين مات أبو طالب ـ فقال: إن عمك الضال قد مات، فقال اذهب فغسله، وكفنه، وواره(37) فكيف يتفق هذا مع ما سبقت روايته عن الإمام علي(عليه السلام) نفسه من أنا أبا طالب ما مات حتى أعطى رسول الله(صلى الله عليه وآله) من نفسه الرضا؟ وإذن فلابد أن إحدى الروايتين مكذوبة أيضا على علي(عليه السلام).
ولو سلمنا جدلا، أن أبا طالب لم يعلن إسلامه قبل مماته، فهل ينكر أحد أنه لم يدع وسيلة لنصرة النبي وحماية دعوته إلا وأتبعها؟
وهل من كان هذا شأنه يستحق من ابنه المسلم، أن يقول عنه ـ حين مماته ـ لرسول الله أن عمك الضال قد مات؟
أفلا كان يكفيه، وهو ربيب النبي(صلى الله عليه وآله)، والمنشأ على أخلاق الإسلام وعفة اللسان ـ أن يقول، حينئذ: إن عمك قد مات، دون أن يصفه بالضلال؟
وهل هذا من بر الوالدين الذي نزل به القرآن من مثل قول الله تعالى: (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ)(38).
وخلاصة القول على ما تقدم كله، نتساءل:
إلى أي مدى يمكن اعتبار ما نسب إلى أبي طالب من الشعر ـ على تعارضه ـ دليلا على أنه أسلم بالفعل أو لم يسلم؟
والى أي مدى يمكن اعتبار الروايات التي استعرضناها ـ على تعارضها أيضا ـ دليلا لهذا الفريق أو ذاك؟
لا شك أن النظرة الملية إلى الظروف التي أوحت بهذا الشعر أو ذاك وبهذه الرواية أو تلك، والي البيئة النفسية، التي أنتجت كلا منهما، والى التيارات السياسية التي تقاذفتهما سنين طويلة عبر قرون زاخرة بالتعصب المذهبي الذي فرض نفسه على الأفكار والآراء على صعيد العالم الإسلامي كله، طولا وعرضا... كل ذلك ينبغي أن يكون في الاعتبار عند النظرة إلى هذا الشعر أو ذاك، والى هذه الرواية أو تلك، عن إسلام أو عدم إسلام أبي طالب، الذي شاء له القدر ـ بلا نزاع من أي من الفريقين ـ أن يكون كافل النبي(صلى الله عليه وآله) طفلا، وراعيه يافعا، وحاميه عند مبعثه، حيث لم يكن له بين الناس حام سواه.
وإذا كان مما لا خلاف فيه، أيضا، أن ما جرى لأهل البيت خلال القرون المتوالية على الأمة الإسلامية من جحود وقطيعة ـ عقب وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) ـ كان كفيلا بأن يحول بين صفحات التاريخ وبين أن تخط فيها كلمة إنصاف يكتبها قلم، أو تنطقها شفتان، تثنى عليهم أو تعترف بفضلهم...(39).
فلقد كانت الحرب ـ ولا تزال بصورة أو بأخرى معلنة عليهم في كل زمان ومكان. ولقد تعقبوا في النفس والولد والمال والسمعة، ولاحقتهم الأحقاد باللعن والسب والإساءة... وحل بهم التنكيل والتقتيل في كل مكان. ولم يكن عجبا ـ والحالة هذه ـ أن يتناولهم كثير من الكتاب، ورواة الأنباء والأخبار بما يستجيب ويتمشى مع النزعات السياسية والمذهبية المخالفة، بما يثلبهم ويقدح فيهم، ويحرف الحقيقة في شأنهم، وأن يكون موقف ذوي الضمير من هؤلاء، وهؤلاء متمثلا في إهمال أمرهم، وعدم التعرض لذكرهم بسلب أو بإيجاب، خشية من أن ينالهم ما ينالهم من الأذى والنكال والعقاب، مما كان يحل بكل من اتخذ الموقف الحق منهم، وفي أحداث تاريخنا المعاصر ما يمدنا بالأمثلة الصارخة، والمتعددة، مما يحدث للمعارضين للحكام.
ومن ثم فإذا تسرب إلينا ـ من خلال هذا الحصار والإعسار ـ شيء من سيرتهم المضيئة، أو قبس من أقوالهم ومواقفهم المعبرة عن حقيقة الإسلام، أو شعلة من معالم سلوكهم الرشيد، فلا شك أنه حدث في غفلة من الطغاة وأعوانهم، وعلامة صحيحة على أن العقيدة ـ حين تملك على الإنسان وجدانه وسلوكه ـ تدعوه لأن يتحدى الأوضاع، ليتغلب عليها بقدر الإمكان. وهذا هو الذي ظهر، فيما بعد، أنه كان حتى أصبح مادة لما نقوله الآن.
لقد وصل إلينا ـ رغما عن كل الموانع والعوائق ـ شعر يحدثنا عن إسلام أبي طالب، منسوبا إليه، وروايات تاريخية تؤكد ذلك منه، أفلا يكون هذا مرجحا لما روي من هذا أو ذاك، على ما روي في الجانب الآخر النافي لإسلامه؟
إن الأمر ـ حينئذ، والحالة هذه ـ إن لم يرق إلى رتبة الدليل، فانه، بلا شك، لا ينزل عن مرتبة القرينة القوية التي تصل بانضمام غيرها من القرائن إلى مرتبة الدليل القوي، والبرهان الجلي، دون أن يعني هذا تهوينا من نسبة هذا الشعر إلى أبي طالب، أو صحة تلك الروايات، بما فيها من دلالة صريحة على إسلامه، فقد ورد ذكرهما في كثير من الكتب والمراجع التاريخية المعترف بوثاقتها، وصحة نقلها مثل: تاريخ ابن كثير، وسيرة ابن هشام، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ومستدرك الحاكم.
ـــــــــــــــــــــ قرائن في إسلام أبي طالب:
ومن ثم فإننا نضم إلى تلك القرينة القوية غيرها من القرائن الآتية، وسنجد أنها كلها يأخذ بعضها برقاب بعض، مؤكدة إسلام أبي طالب، حتى لا يبقى في ذلك مجال للشك، وذلك أنه من المعلوم:
1 ـ أن رابطة الدين هي أقوى الروابط الاجتماعية، وأمامها تذوب، بل تزول وتتلاشى، سائر الروابط النسبية والسببية، أيا كان نوعها، وأيا كانت درجة كل نوع منها، حتى لقد يبلغ من قوة تأثيرها أن تدفع الأخ لأن يحارب ـ في سبيلها ـ أخاه، بل وابنه وأباه، وأنها تمنع التوارث بمجرد اختلافها، وأن الولاء والتناصر يتحققان بين المتفقين فيها، مهما تباعدوا نسبيا، أو تفاوتوا اجتماعيا.
ومن ثم لا يمكن أن يقال: أن رابطة القرابة كانت سبب نصرة أبي طالب لرسول الله وحمايتة له من أعدائه، تلك الحماية التي لولاها لما أمكن للدعوة الإسلامية أن تأخذ مسارها نحو الشيوع والانتشار، وإلا فقد كان أبو لهب أيضا ـ ونبفس المقدار ـ جديرا بنفس النصرة والحماية، فكلاهما عم لرسول الله، ولكن أبا لهب على العكس من أبي طالب كان حربا عوانا على محمد(صلى الله عليه وآله) ودينه وأتباعه، بكل أصناف الحرب وأنواع الإيذاء...